فصل: (بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ):

قَالَ: (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبْسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ.
قَالَ: (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقول قول مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ غِنَاهُ، وَيُرْوَى أَنَّ الْقول لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْقول لَهُ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ.
وَفِي النَّفَقَةِ الْقول قول الزَّوْجِ إنَّهُ مُعْسِرٌ، وَفِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْقول لِلْمُعْتِقِ، وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَدِّيَانِ الْقوليْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ حَتَّى تَسْقُطَ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقول قول الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا كَانَ الْقول قول مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ لَوْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ، وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَيَكُونُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا.
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ فِي الْكِتَابِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ) أَحْكَامُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ فَذَكَرَ مِنْهَا مَا ذَكَرَ، وَمِنْهَا الْحَبْسُ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَأَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ.
وَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ بِقولهِ تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} وَبِالسُّنَّةِ عَلَى مَا سَلَفَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ».
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اقْتَتَلُوا فَقَتَلُوا بَيْنَهُمْ قَتِيلًا، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَهُمْ. وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ سِجْنٌ، إنَّمَا كَانَ يَحْبِسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَتَّى اشْتَرَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَاِتَّخَذَهُ مَحْبِسًا.
وَقِيلَ بَلْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ أَيْضًا إلَى زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَنَاهُ، وَهُوَ أَوَّلُ سِجْنٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ فِي الْفَائِقِ: إنَّ عَلِيًّا بَنَى سِجْنًا مِنْ قَصَبٍ فَسَمَّاهُ نَافِعًا، فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ وَتَسَيَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، ثُمَّ بَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا، وَفِي ذَلِكَ يَقول عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسَا

بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا

بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسَا

وَالْمُخَيَّسُ مَوْضِعُ التَّخْيِيسِ وَهُوَ التَّذْلِيلُ، وَالْكَيْسُ حُسْنُ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْكَيِّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكَيْسِ.
وَأَرَادَ بِالْأَمِينِ السَّجَّانَ الَّذِي نَصَبَهُ فِيهِ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا لِعِيدٍ وَلَا لِجُمُعَةٍ وَلَا لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَلَا لِحَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةِ بَعْضِ أَهْلِهِ وَلَوْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيُسَارِعَ لِلْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا خَشِنًا وَلَا يُبْسَطُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا وِطَاءٌ وَلَا يَدْخُلُ لَهُ أَحَدٌ يَسْتَأْنِسُ بِهِ.
وَقِيلَ يَخْرُجُ بِكَفِيلٍ لِجِنَازَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَفِي غَيْرِهِمْ لَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إبْطَالُ حَقٍّ آدَمِيٍّ بِلَا مُوجِبٍ وَمَوْتُ الْأَبِ وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ.
نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ دَفْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ.
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَالِدُهُ أَيَخْرُجُ فَقَالَ لَا.
وَلَوْ مَرِضَ فِي السِّجْنِ فَأَضْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَمُوتَ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ يَخْرُجُ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمُمَرِّضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَقْضِيًّا لِلتَّسَبُّبِ فِي هَلَاكِهِ؛ وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ تَدْخُلُ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهَا حَيْثُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِيفَاءِ بِمَشُورَتِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ.
وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْحَبْسِ، فَيُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ لِأَنَّ ظُلْمَهُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِ ذَلِكَ.
قولهُ: (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ) بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إحْلَالَ عِرْضِهِ بِإِغْلَاظِ الْقول لَهُ وَعُقُوبَتِهِ بِالْحَبْسِ (فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ) وَلَمْ تَظْهَرْ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ (إذْ لَعَلَّهُ طَمَعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إذَا أَمَرَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَامْتَنَعَ (أَمَّا إذَا ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ فَيَحْبِسُهُ كَمَا ظَهَرَ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ).
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَحْبِسُهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ لِأَنَّهُ يَعْتَذِرُ بِأَنِّي مَا كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ عَلَيَّ دَيْنًا لَهُ بِخِلَافِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى شَكْوَاهُ؛ وَعَلَى قول الْخَصَّافِ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَأْمُرَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ.
قولهُ: (فَإِنْ امْتَنَعَ) أَيْ بَعْدَ أَمْرِهِ بِقَضَائِهِ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ (بِهِ) وَالْمُرَادُ بِالْغِنَى الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ، وَإِلَّا فَالدَّيْنُ قَدْ يَكُونُ دُونَ النِّصَابِ وَيُحْبَسُ بِهِ: يَعْنِي إذَا دَخَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إيفَائِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَدَلَ مَالٍ لَكِنَّهُ لَزِمَهُ عَنْ عَقْدٍ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يُلْزِمُ ذَلِكَ الْمَالَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ، وَلَا يَسْمَعُ قولهُ إنِّي فَقِيرٌ لِأَنَّهُ كَالْمُنَاقِضِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْيَسَارِ (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ) النَّوْعَيْنِ (إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) حِينَئِذٍ (لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلَالَةَ الْيَسَارِ) أَيْ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ (وَيُرْوَى أَنَّ الْقول لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ فِيمَا كَانَ بَدَلَ مَالٍ أَوْ لَزِمَهُ بِعَقْدٍ أَوْ حُكْمًا لِفِعْلِهِ لَا لِعَقْدٍ كَالْإِتْلَافِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ قول الْخَصَّافِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ) فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ خُلِقَ عَدِيمَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ فَلَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَلَك مَالٌ أَوْ لَا، فَإِنْ قَالَ لَا اسْتَحْلَفَهُ فَإِنْ نَكَلَ حَبَسَهُ، وَإِنْ حَلَفَ أَطْلَقَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى قُدْرَتِهِ.
وَعِنْدَنَا يَحْبِسُهُ وَلَا يَسْأَلُهُ، فَإِنْ قَالَ أَنَا فَقِيرٌ حِينَئِذٍ يَنْظُرُ (وَيُرْوَى أَنَّ الْقول لَهُ) أَيْ لِلْمَدْيُونِ (إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ) كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْقول فِيهِمَا قول الْمُدَّعِي.
وَنَسَبَ الْخَصَّافُ هَذَا الْقول لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَحْكُمُ الزِّيُّ إنْ كَانَ بِزِيِّ الْفُقَرَاءِ فَالْقول قولهُ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي قُدْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ بِزِيِّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقول لِلْمُدَّعِي إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ لَا يَحْكُمُ الزِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي لِبَاسِهِمْ مَعَ فَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقول لَوْ كَانَ عَلَى الْمَطْلُوبِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَيْرُ زِيِّهِ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ جُعِلَ الْقول قول الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَيَانِ حَكَمَ زِيُّهُ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ الْقول قول الْمَدْيُونِ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مُوسِرٌ وَهُوَ يَقول أَعْسَرْت بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَقَدُّمُ لِأَنَّ مَعَهَا عِلْمًا بِأَمْرٍ حَادِثٍ وَهُوَ حُدُوثُ ذَهَابِ الْمَالِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَتَيْنِ مَحْفُوظَتَيْنِ نَصًّا عَنْ أَصْحَابِنَا بِلَا خِلَافٍ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ مُوسِرٌ لِتَأْخُذَ نَفَقَةَ الْيَسَارِ وَقَالَ إنَّهُ مُعْسِرٌ لِيُعْطِيَ نَفَقَةَ الْإِعْسَارِ أَنَّ الْقول لِلزَّوْجِ، وَالثَّانِيَةُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَلَا يَضْمَنُ لِلسَّاكِتِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ وَقَالَ شَرِيكُهُ بَلْ مُوسِرٌ لِيَضْمَنَهُ كَانَ الْقول قول الْمُعْتِقِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَيِّدَانِ الْقوليْنِ الْأَخِيرَيْنِ) يَعْنِي قول الْقَائِلِ الْقول لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقول الْقَائِلِ الْقول لِمَنْ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ.
أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقول قول الزَّوْجِ وَالْمُعْتِقِ، فَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا، كَانَ الْقول لِلْمَرْأَةِ وَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي دَعْوَى الْيَسَارِ، وَأَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمَهْرِ وَبَدَلُ الْعِتْقِ مَالًا جُعِلَ الْقول قول مَنْ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقولانِ الْأَخِيرَانِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَرْوَحَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِقول مَنْ قَالَ الْقول لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ، وَذَكَرَ فِي الثَّانِي مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْقول الْمُفَصَّلَ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ مُلْتَزَمًا بِمَالٍ أَوْ بِعَقْدٍ، فَلَا يَكُونُ الْقول لِلْمَطْلُوبِ وَكَوْنُهُ بِخِلَافِهِمَا فَالْقول لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا مُلْتَزَمٌ بِعَقْدٍ أَوْ شِبْهِهِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْحَسَنُ الْمَوْضُوعُ سَبَبًا: أَعْنِي الْعِتْقَ، وَيُؤَيِّدَانِ الْقول الْأَخِيرَ وَهُوَ أَنَّ الْقول لِلْمَدْيُونِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مَالًا، وَيَجْعَلُ الْقول لِلْمَدْيُونِ تَأَيُّدُ الْقول بِأَنَّ مَا بَدَلُهُ لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ الْقول فِيهِ لِلْمَطْلُوبِ وَإِنْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ، ثُمَّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا مَعَ جُزْءِ كُلٍّ مِنْ الْقوليْنِ بِمُطَابَقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوهِمُ أَنَّهُ يُفِيدُ الشُّمُولَ وَإِلَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِهِ الْقول لِلْمَطْلُوبِ فِيمَا إذَا الْتَزَمَ بِعَقْدٍ وَالْبَدَلُ لَيْسَ بِمَالٍ كَوْنُ الْقول لَهُ فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ.
فَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قولهِ بَعْدَ تَوْجِيهِ التَّأْيِيدِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُمَا الْقولانِ تَسَاهُلٌ ظَاهِرٌ.
وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقول لِلْمَطْلُوبِ فِي الْكُلِّ إذَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحَ لَا يَكُونُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ بَدَلِ الدَّيْنِ مَالًا فَالْقول لِلْمُدَّعِي، أَوْ غَيْرَ مَالٍ فَالْقول لِلْمَطْلُوبِ صَحِيحًا.
فَاَلَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ إنَّمَا يُبْطِلَانِ الْقول الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ غَيْرُ.
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ وَلِذَا سَقَطَتْ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَهَذَا مَعْنَى قولهِ (وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إلَخْ) فَلَمْ يُرِدْ نَقْضًا فَيَرْجِعَ قول الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ عَلَى قُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ (ثُمَّ فِيمَا) إذَا (كَانَ الْقول قول الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ يُحْبَسُ) الْمَدْيُونُ (شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ ثُمَّ إنَّمَا يُحْبَسُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ) فَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ (فَلَا بُدَّ أَنْ تَمْتَدَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ) وَهُوَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ (وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْآجِلِ وَمَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ فَصَارَ أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرًا وَالْأَقْصَى لَا غَايَةَ لَهُ فَيُقَدَّرُ بِشَهْرٍ.
وَرُوِيَ (أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَيْ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
قولهُ: (وَالصَّحِيحُ إلَخْ) ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ وَكَذَا الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، فَالتَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إذْ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ أَنْ يَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَقْضِيَهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَرَّجَ عَنْ نَفْسِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ الْخِبْرَةِ بِهِ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ ضَيِّقُ الْحَالِ أَطْلَقَهُ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَبْسِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَقَبُولُ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ: فِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَبِهِ أَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَهُوَ قول مَالِكٍ.
قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ بَيِّنَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَأَيَّدَتْ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضِيقَ السِّجْنِ وَمَرَارَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الْمُدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِلَّا فَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ وَجَبَ إطْلَاقُهُ إنْ لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ يَسَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى سُؤَالٍ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قولهُ فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الْمَدْيُونُ يَمِينَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ أَطْلَقَهُ، وَلَوْ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَإِنْ حَلَفَ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى حُدُوثِ عُسْرَتِهِ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ فِي كَيْفِيَّةِ شَهَادَةِ الْإِعْسَارِ أَنْ يَقول: أَشْهَدُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ فَسَأَلَ فَإِنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ فِي إخْبَارِهِ بِالْعُسْرَةِ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَبْسِ مِنْ كَفَالَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.

متن الهداية:
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ وَالْحَبْسُ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فَلَا نُعِيدُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ لِمَا فِي ظَاهِرُهُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قولهِ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي وَصْلِ الْحَبْسِ بِإِقْرَارِهِ فَذَكَرَهُ لِيُؤَوِّلَهُ بِقولهِ (وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ فَتَرَافَعَا) إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ إلَى الْآنَ شَيْئًا قَالَ: (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَالِدِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِوَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ) وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ تُقَدِّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ فَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ النَّفَقَةِ قَلِيلًا كَالدَّانَقِ إذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِهَا لَوْ طَلَبَتْ حَبْسَهُ لَمْ يَحْبِسْهُ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تُسْتَحَقُّ بِالظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا فِي يَوْمٍ يَنْبَغِي إذَا قَدَّمَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فَإِنْ رَجَعَ فَلَمْ يُنْفِقْ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، وَإِنْ كَانَتْ النَّفَقَةُ سَقَطَتْ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَهُوَ ظَالِمٌ لَهَا وَهُوَ قِيَاسُ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْقَسْمِ مِنْ قولهِمْ إذَا لَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِالْقَسْمِ وَعَدَمِ الْجَوْرِ، فَإِنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَقْسِمْ فَرَفَعَتْهُ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، وَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ لَهَا مِنْ الْحَقِّ لَا يَقْضِي وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ.
قولهُ: (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ) وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَالِدُ عُقُوبَةً لِأَجْلِ الْوَلَدِ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ لَمَّا حَرُمَ كَانَ الْحَبْسُ حَرَامًا لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ إذَا قَتَلَهُ، أَمَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَأَبَى عَنْ الْإِنْفَاقِ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَوْ جَدًّا، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ سَعْيًا فِي هَلَاكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ الْوَالِدُ لِقَصْدِهِ إلَى إهْلَاكِ الْوَلَدِ (وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا) أَيْ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ (بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْعَبْدُ لَا يُحْبَسُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ غَيْرِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يُحْبَسُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حُبِسَ لِأَنَّهُ لِلْغُرَمَاءِ فِي التَّحْقِيقِ، وَيُحْبَسُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ لِلْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ فِي الْجِنْسِ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ.
فَإِذَا أَخَذَ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا وَفِي غَيْرِ جِنْسِهِ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ.
وَالْمُكَاتَبُ فِي أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَيُحْبَسُ لِمَطْلِهِ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُحْبَسُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ.

.(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي):

قَالَ: (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ) لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ) لِوُجُودِ الْحُجَّةِ (وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ) وَهُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا (وَإِنْ شَهِدُوا بِهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْخَصْمِ لَمْ يَحْكُمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ (وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ) لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ، وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَوَازُهُ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَخَصْمِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَقولهُ فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ، وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي):
هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِقَاضِيَيْنِ فَهُوَ كَالْمُرَكَّبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَبْسِ، وَالْعَمَلُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إخْبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَاضِي لَوْ أَخْبَرَ قَاضِيَ الْبَلَدِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ قَبِلَهَا حَقُّ فُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الْكَائِنِ فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ إخْبَارَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَكِتَابُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْمَلَ بِهِ، لَكِنَّهُ جَازَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شُهُودِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدَيْنِ فَجُوِّزَ إعَانَةً عَلَى إيصَالِ الْحُقُوقِ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَمَا وَجْهُ الْقِيَاسِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ فَإِنَّ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ فَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ مُنْتَفِيَةٌ بِاشْتِرَاطِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى نَسْبِهِ مَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي الْمُرْسَلِ وَأَنَّهُ خَتَمَهُ.
وَقِيلَ أَصْلُهُ مَا رَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ: أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ.
لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ مِسَاسَ الْحَاجَةِ إلَى كِتَابِ الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْكِتَابِ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَيُؤَدُّونَ عِنْدَ الْقَاضِي الثَّانِي فَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ لِأَنَّا نَقول: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَحْتَاجُ الْقَاضِي الثَّانِي إلَى تَعْدِيلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ، وَبِالْكِتَابِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ بِعَدَالَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ.
قولهُ: (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ) أَيْ الَّتِي تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (إذَا شَهِدَ بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ (عِنْدَ الْقَاضِي) الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ مَا هُوَ عَنْ قَرِيبٍ.
ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ: (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ) يُرِيدُ بِالْخَصْمِ الْحَاضِرِ مَنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مُسَخَّرًا وَهُوَ مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَوْ أَرَادَ بِالْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إلَى الْكِتَابِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ حَاضِرٌ عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ (وَ) إذَا حَكَمَ (كَتَبَ بِحُكْمِهِ) إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّتِي فِيهَا الْمُوَكِّلُ لِيَقْتَضِيَ مِنْهُ الْحَقَّ (وَ) هَذَا الْكِتَابُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ (هُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا) فِي عُرْفِهِمْ (وَإِذَا شَهِدُوا بِلَا خَصْمٍ حَاضِرٍ لَمْ يَحْكُمْ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ (وَ) إنَّمَا (يَكْتُبُ بِالشَّهَادَةِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ لِيَحْكُمَ) هُوَ (بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ) فِي عُرْفِهِمْ نَسَبُوهُ إلَى الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ (وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَقْلُ الشَّهَادَةِ) إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي، وَسَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْحُكْمِ مِنْ الْقَاضِي الثَّانِي بِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ السِّجِلَّ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَرَى ذَلِكَ الْحُكْمَ لِصُدُورِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ يُخَالِفُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ (وَيَنْدَرِجُ فِي الْحُقُوقِ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى الْإِشَارَةِ) وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الرَّجُلِ وَإِلَى الْمَرْأَةِ، وَكَذَا فِي الْأَمَانَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَكَانَتْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْمُدَّعَى بِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ نَفْسُ النِّكَاحِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ فِي ضِمْنِهِ الْإِشَارَةُ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذْ كُلٌّ خَصْمٌ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْخَصْمِ شَرْطٌ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا لَزِمَتْهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ضِمْنًا أَوْ قَصْدًا تَتَعَذَّرُ عَلَى شُهُودِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ.
فَالْحَقُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَلْزَمُ مِنْ الْأُصُولِ إلَى الْخَصْمِ الْغَائِبِ، بَلْ يَشْهَدُونَ عَلَى مُسَمَّى الِاسْمِ الْخَاصِّ وَالنَّسَبِ وَالشُّهْرَةِ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ هُنَاكَ يَقَعُ التَّعْيِينُ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكْتُبُ فِيهَا كَمَا يَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَبْدِ (وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا) إذَا بَيَّنَ حُدُودَهَا الْأَرْبَعَ (لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهِ).

متن الهداية:
وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقولةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِيهِ دُونَهَا.
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقولةِ) كَالْحِمَارِ وَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ (لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ) فِيهَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قُبِلَ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ يَخْدُمُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَإِبَاقُهُ مُتَيَسِّرٌ فَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ فِيهِ جَوَّزَهُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهَا دَاخِلُ الْبَيْتِ فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَيَسُّرُهُ لَهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ) مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْإِمَاءِ (وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَنَصَّ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قول، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ مَا كَانَ إلَّا الْحَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ فِي الْأَعْيَانِ وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْمَدْيُونِ لِيُقْضَى عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ اكْتَفَى بِاسْمِهِ وَشُهْرَتِهِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ، وَقَبُولُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ مِنْ الثَّانِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ الصُّوَرِ، فَصُورَةُ الدَّيْنِ إذَا شَهِدُوا عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا سَلَامٌ عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ رَجُلًا أَتَانِي يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فِي كُورَةِ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُجَرَّدِ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُ، وَسَأَلَنِي أَنْ أَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَأَكْتُبَ إلَيْك بِمَا يَسْتَقِرُّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَتْهُ الْبَيِّنَةَ فَأَتَانِي بِعِدَّةٍ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ فَشَهِدُوا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا دَيْنًا حَالًّا، وَسَأَلَنِي أَنْ أُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ مَا قَبَضَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ بِوَكَالَةٍ وَلَا احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَحَلَّفْته فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا قَبَضَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي وَلَا قَبَضَهُ لَهُ وَكِيلٌ وَلَا أَحَالَهُ وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ وَأَنَّهَا لَهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إلَيْك بِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ فَكَتَبْت إلَيْك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ شُهُودًا أَنَّهُ كِتَابِي وَخَاتَمِي وَقَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ.
قَالَ ثُمَّ يُطْوَى الْكِتَابُ وَيُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَتَمَ عَلَيْهِ شُهُودُهُ فَهُوَ أَوْثَقُ ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهِ عِنْوَانَ الْكِتَابِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا أَتَى بِهِ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي الَّذِي بِالْكُورَةِ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ، فَإِذَا أَحْضَرَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ قَبِلَ بَيِّنَتَهُ وَسَمِعَ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ جِئْنِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَعُدِّلُوا سَمِعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي الَّذِي ذُكِرَ، فَيَقول لَهُمْ: أَقَرَأَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِ؟، فَإِذَا قَالُوا قَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَشْهَدْنَا أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يَفُكُّ الْخَاتَمَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ، فَإِذَا عُدِّلُوا لَا يَفُكُّهُ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ، فَإِذَا حَضَرَ فَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ أَلَك حُجَّةٌ وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ قَبِلَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْت أَنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الَّذِي شَهِدُوا عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ بَلْ هُوَ آخَرُ، قَالَ لَهُ هَاتِ بَيِّنَةً أَنَّ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ أَوْ الْقَبِيلَةِ رَجُلًا يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا تَنْتَسِبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَلْزَمْتُك مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ مَنْ يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ أَبْطَلَ الْكِتَابَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ قَضَى عَلَيْهِ انْتَهَى.
فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ يَحْصُلُ بِآخِرِهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَوَاضِعُ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً نُنَبِّهُ عَلَيْهَا: مِنْهَا قولهُ فِي شُهُودِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ لَمْ يَذْكُرُ كَتْبَ عَدَالَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَقَالُوا لَوْ كَتَبَ وَأَقَامَ شُهُودًا عُدُولًا عَرَفْتهمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ سَأَلْت عَنْهُمْ فَعَدَلُوا كَفَى عَنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنَسَبِهِمْ، وَعِنْدِي لَا بُدَّ أَنْ يَقول أَحْرَارٌ عُدُولٌ إذَا لَمْ يُسَمِّهِمْ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنِسْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُصَلَّاهُ وَحِرْفَتِهِ إنْ تَاجِرًا فَتَاجِرٌ أَوْ مُزَارِعًا فَمُزَارِعٌ، وَالْمَقْصُودُ تَتْمِيمُ تَعْرِيفِ الشُّهُودِ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ عَدَلُوا لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَحْضَرَهُ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ لَهُ مَطْعَنٌ فِيهِمْ أَوْ فِي أَحَدِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمْ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الطَّعْنِ إنْ كَانَ، وَإِلَّا فَيَقول سَمُّوهُمْ لِي فَإِنِّي قَدْ يَكُونُ لِي فِيهِمْ مَطْعَنٌ.
وَمِنْهَا قولهُ إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْقَاضِي وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ لَهَا قَاضِيَانِ لَا يَصِحُّ.
وَمِنْهَا قولهُ فِي الْمُدَّعِي يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَتِمُّ التَّعْرِيفُ فِي قولهِمَا وَعِنْدَهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ، وَكَذَا الْخِلَافُ لَوْ ذَكَرَ قَبِيلَتَهُ أَوْ صِنَاعَتَهُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الْأَبِ لَكِنْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ فَخِذِهِ فَقَالَ فُلَانٌ التَّمِيمِيُّ أَوْ الْكُوفِيُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَعْرِيفًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا.
وَقِيلَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَائِبٌ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ لِأَنَّ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافًا فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ.
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا قول أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا خَتْمُ الشُّهُودِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ هُوَ أَوْثَقُ كَمَا قَالَ.
وَمِنْهَا قولهُ وَعُدِّلُوا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَفُكُّ الْخَتْمَ حَتَّى يُعَدَّلَ شُهُودُ الْكِتَابِ وَفِيهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ، وَإِنْ كَانَتْ دَارًا قَالَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَذَكَرَ حُدُودَهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَعْرِفُهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ.
وَلَوْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ كَفَى اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ غَلِطُوا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ بَطَلَ الْكِتَابُ.
وَصُورَةُ كِتَابِ الْعَبْدِ الْآبِقِ مِنْ مِصْرٍ بَعْدَ الْعُنْوَانِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ الْهِنْدِيَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ حِلْيَتُهُ كَذَا وَقَامَتُهُ كَذَا وَسِنُّهُ كَذَا وَقِيمَتُهُ كَذَا مِلْكُ فُلَانٍ الْمُدَّعِي، وَقَدْ أَبَقَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَشْهَدُ عَلَى كِتَابِهِ شَاهِدَيْنِ مُسَافِرَيْنِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة عَلَى مَا فِيهِ وَعَلَى خَتْمِهِ كَمَا سَيُذْكَرُ، فَإِذَا وَصَلَ وَفَعَلَ الْقَاضِي مَا تَقَدَّمَ وَفَتَحَ الْكِتَابَ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا بِمِلْكِ الْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَجْعَلُ خَاتَمًا مِنْ الْقَاضِي فِي كَتِفِ الْعَبْدِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا إلَّا لِدَفْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ وَيَتَّهِمُهُ بِسَرِقَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا حَاجَةَ وَيَكْتُبُ كِتَابًا إلَى قَاضِي مِصْرٍ وَيَشْهَدَانِ عَلَى كِتَابِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُدَّعِي أَنْ يُحْضِرَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَإِذَا شَهِدُوا قَضَى لَهُ بِهِ وَكَتَبَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَاضِيَ مِصْرٍ لَا يَقْضِي بِالْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْخَصْمَ غَائِبٌ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ كِتَابًا آخَرَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَيَذْكُرُ فِيهِ مَا جَرَى عِنْدَهُ وَيُشْهِدُ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ مَعَهُ إلَيْهِ لِيَقْضِيَ بِهِ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَرِّئُ الْكَفِيلَ.
وَصُورَتُهُ فِي الْجَوَارِي كَمَا فِي الْعَبْدِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ لَا يَدْفَعُ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُدَّعِي بَلْ يَبْعَثُهَا عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهَا مَعَ الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا لِاعْتِمَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: هَذَا فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا وَيَسْتَغِلُّهُ، فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ضَمَّ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَكَلَامُنَا عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى الْمُوَافِقَةِ لِلْوَجْهِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَالزَّوْجَةُ الْمُدَّعَى بِاسْتِحْقَاقِهَا فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمَةِ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الدُّيُونِ، لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ لَسْت أَنَا فُلَانَةَ الْمَشْهُودَ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ الْمُدَّعِي الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى بَيِّنَةِ أَنَّ فِي قَبِيلَتِهَا مَنْ هُوَ عَلَى اسْمِهَا وَنَسَبِهَا أَنْ تُدْفَعَ إلَى الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ يُشْبِهُ الْكِتَابَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ، بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَرَسُولِهِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ) أَيْ لَا يَقْبَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْكِتَابُ (إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) عَلَى أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ الْكَاتِبِ وَأَنَّهُ خَتْمُهُ وَأَنَّ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا بُدَّ مِنْ إسْلَامِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى كُتَّابِ الْقَاضِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إذْ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ، وَلَمْ يَشْرِطْ الشَّعْبِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحَسَنُ أَسْنَدَ الْخَصَّافَ إلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَوْ عُمَيْرٍ قَالَ: جِئْت بِكِتَابٍ مِنْ قَاضِي الْكُوفَةِ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجِئْت وَقَدْ عُزِلَ وَاسْتُقْضِيَ الْحَسَنُ فَدَفَعْت كِتَابِي إلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَلَمْ يَسْأَلْنِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَفَتَحَهُ ثُمَّ نَشَرَهُ فَوَجَدَ لِي فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ اذْهَبْ بِهَذَا الْكِتَابِ إلَى زِيَادَةَ فَقُلْ لَهُ أَرْسِلْ إلَى فُلَانٍ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَادْفَعْهَا إلَى هَذَا وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ قِيَاسًا عَلَى كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ، وَعَلَى رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَرَسُولِ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي.
قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ مُلْزِمٌ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ بِهِ، وَلَا بُدَّ لِلْمُلْزِمِ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، بِخِلَافِ كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُلْزِمًا إذْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا طَلَبُوهُ، وَلَهُ أَنْ لَا.
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَلِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً، وَإِنَّمَا الْمُلْزِمُ هُوَ الْبَيِّنَةُ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ الْقَاضِي وَبَيْنَ كِتَابِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَلَا يُقْبَلُ رَسُولُهُ فَلِأَنَّ غَايَةَ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ كَنَفْسِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَا فِي كِتَابِهِ لِذَلِكَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُهُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ أُجِيزَ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْت: فَكَيْفَ عَمِلَ الْحَسَنُ بِالْكِتَابِ وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْ إلَّا إلَى قَاضٍ آخَرَ غَيْرِهِ؟ فَالْجَوَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَ إلَى إيَاسٍ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ إذَا كَتَبَ كَذَلِكَ كَانَ لِكُلِّ قَاضٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ مَنْ الْأَوَّلُ إلَى مَنْ يَبْلُغُهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ.
فَرْعٌ:
يَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَمَا جَازَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي وَلَّاهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ثُمَّ قَصَّ الْقِصَّةَ وَهُوَ مَعَهُ فِي الْمِصْرِ فَجَاءَ بِهِ ثِقَةٌ يَعْرِفُهُ الْأَمِيرُ، فَفِي الْفَتَاوَى لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْأَمِيرِ لِيُخْبِرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، فَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كِتَابَهُ وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ فِي مِثْلِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فَشَرْطُنَا هُنَاكَ شَرْطُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ) لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ (ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ) كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بِحَضْرَتِهِمْ شَرْطٌ، وَكَذَا حِفْظُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ غَيْرُ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةٌ عَلَى حِفْظِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قول أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: (وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلْحُكْمِ.
قَالَ: (فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الشُّرُوطِ الْمَوْعُودِ بِذِكْرِهَا فِي قولهِ وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا.
وَالْحَاصِلُ إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْلِمَهُمْ مَا فِيهِ: أَيْ بِإِخْبَارِهِ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِلَا عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِأَنَّ هَذَا الصَّكَّ مَكْتُوبٌ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفِيدُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَاشْتِرَاطُ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَمِنْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ خَتَمَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْتِمَهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُعَنْوَنًا: أَيْ مَكْتُوبًا فِيهِ الْعُنْوَانُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ اسْمُ الْكَاتِبِ وَاسْمُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَنَسَبُهُمَا وَالشَّرْطُ الْعُنْوَانُ الْبَاطِنُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَكَانَ مُعَنْوَنًا فِي الظَّاهِرِ لَا يَقْبَلُهُ لِتُهْمَةِ التَّغْيِيرِ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نُسْخَةٌ أُخْرَى مَفْتُوحَةٌ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حِفْظِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّذَكُّرِ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَهُمَا.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ) بَعْدَمَا كَانَ أَوَّلًا يَقول كَقول أَبِي حَنِيفَةَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأُمَّةِ السَّرَخْسِيِّ) وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ الْفَرْضَ إذَا كَانَ عَدَالَةَ الشُّهُودِ وَهُمْ حَمَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْتُومٍ مَعَ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ، نَعَمْ إذَا كَانَ الْكِتَابُ مَعَ الْمُدَّعِي يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الْخَتْمَ لِاحْتِمَالِ التَّغْيِيرِ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ حِفْظًا، فَالْوَجْهُ إنْ كَانَ الْكِتَابُ مَعَ الشُّهُودِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ مَعْرِفَتُهُمْ لِمَا فِيهِ وَلَا الْخَتْمُ، بَلْ تَكْفِي شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ مَعَ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي اُشْتُرِطَ حِفْظُهُمْ لِمَا فِيهِ فَقَطْ وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ التَّارِيخَ، فَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَا يُقْبَلُ، وَذَلِكَ لِيَنْظُرَ هَلْ هُوَ كَانَ قَاضِيًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لَا، وَكَذَا إنْ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْحَادِثَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَا تُقْبَلُ.
وَفِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ: يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْمِصْرَيْنِ، وَمِنْ قَاضِي مِصْرٍ إلَى قَاضِي رُسْتَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ قَاضِي رُسْتَاقٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ انْتَهَى.
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ بَعْدَ عَدَالَةِ شَهَادَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْكِتَابِ لَا فَرْقَ، وَلَوْ كَانَ الْعُنْوَانُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَوْ مِنْ أَبِي فُلَانٍ إلَى أَبِي فُلَانٍ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ أَوْ الْكُنْيَةِ لَا يَتَعَرَّفُ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ مَشْهُورَةً مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَكَذَلِكَ النِّسْبَةُ إلَى أَبِيهِ فَقَطْ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقِيلَ تُقْبَلُ الْكُنْيَةُ الْمَشْهُورَةُ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْكُنَى غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَهِرُ بِهَا فَلَا يَعْلَمُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَنَّ الْمَكْنِيَّ هُوَ الَّذِي اُشْتُهِرَ بِهَا أَوْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ إلَى قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ وَاحِدًا فَيَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَحَلِّ الْوِلَايَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ الْعُنْوَانَ أَيْضًا بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَنْوَنًا وَكَانَ مَخْتُومًا وَشَهِدُوا بِالْخَتْمِ كَفَى.
قولهُ: (وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَمْ يُفْتَكَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَقْرَؤُهُ إلَّا بِحُضُورِهِ لَا مُجَرَّدِ قَبُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَتَرْتِيبُ الْحَالِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ اسْتَغْنَى عَنْ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ هَلْ لَك حُجَّةٌ، فَإِنْ قَالَ مَعِي كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْك طَالَبَهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَضَرُوا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَيَشْهَدُونَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا فَحِينَئِذٍ افْتَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْرَأْهُ إلَّا بِحُضُورِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكِتَابَ فِي الْمَعْنَى (بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ) عَلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُلُ أَلْفَاظَ الشُّهُودِ بِكِتَابِهِ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ (بِخِلَافِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَائِبًا (لِأَنَّ سَمَاعَهُ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِلنَّقْلِ) فَكَانَ سَمَاعُهُ بِمَنْزِلَةِ تَحَمُّلِ الْفَرْعِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَفِي التَّحَمُّلِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمِ كَذَا هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ قول أَبِي يُوسُفَ الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ (وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ) فِي شُهُودِ الْكِتَابِ (لِلْفَتْحِ) حَيْثُ قَالَ فَإِذَا شَهِدُوا إلَخْ فَتَحَهُ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا شَهِدُوا وَعُدِّلُوا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ) وَاحْتَرَزَ بِهِ عَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ لَا يُفْتَحُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، ثُمَّ قَالَ: مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَصَحُّ: أَيْ تَجْوِيزُ الْفَتْحِ قَبْلَ ظُهُورِهَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ.
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ.
مِنْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ بِأَنْ ارْتَابَ فِي هَؤُلَاءِ فَيَقول زِدْنِي شُهُودًا، وَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَزِيدِينَ إلَّا حَالَ قِيَامِ الْخَتْمِ.
فَرْعٌ:
لَوْ سَمِعَ الْخَصْمُ بِوُصُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى قَاضِي بَلَدِهِ فَهَرَبَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى كَانَ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ كِتَابِ الْقَاضِي، فَكَمَا جَوَّزْنَا لِلْأَوَّلِ الْكِتَابَةَ نُجَوِّزُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهَلُمَّ جَرًّا لِلْحَاجَةِ.
وَلَوْ كَتَبَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ الْخَصْمُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ شُهُودِ الْكِتَابِ، بَلْ يُعِيدُ الْمُدَّعِي شَهَادَتَهُمْ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَقْتَ شَهَادَتِهِمْ (وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ) هَذَا شَرْطٌ آخَرُ لِقَبُولِ الْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى قَضَائِهِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَمْرُ الْكِتَابِ، فَلَوْ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ بِجُنُونٍ أَوْ عَمًى، قَالُوا أَوْ فِسْقٍ، وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقول بِالْعَزْلِ بِالْفِسْقِ بَطَلَ الْكِتَابُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: يُعْمَلُ بِهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ بِهِ شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَالنَّقْلُ قَدْ تَمَّ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَ كَشُهُودِ الْفَرْعِ إذَا مَاتُوا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ الْأَصْلُ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ فِي الذَّخِيرَةِ مَنْعُ تَمَامِ النَّقْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بَلْ حَتَّى يَصِلَ وَيَقْرَأَهُ، لِأَنَّ هَذَا النَّقْلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْقَاضِي فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِقِرَاءَتِهِ؛ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لَا قَبْلَ وُصُولِهِ، لِأَنَّ وُصُولَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَقول الْمُصَنِّفِ (الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا) يَعْنِي قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ (وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ) غَيْرَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ (فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ عَمَلِهِمَا) وَلَوْ كَانَ عَلَى قَضَائِهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ الْآخَرِ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ خُصَّ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ وَقِرَاءَتِهِ عَمِلَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
(وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ) أَوْ عُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ لَا يَعْمَلُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَنَا (إلَّا إذَا) كَانَ (كَتَبَ إلَى فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ) وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ، وَمَنْ تَحَمَّلَ وَشَهِدَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ قَاضٍ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ كَتَبَ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ وَصَلَ إلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَاتِبَ لَمَّا خَصَّ الْأَوَّلَ بِالْكِتَابَةِ فَقَدْ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَالْقُضَاةُ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْدَفَهُ بِقولهِ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَمَدَ عَلَى عِلْمِ الْكُلِّ وَأَمَانَتِهِمْ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَكْتُوبٌ إلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ.
أَمَّا لَوْ كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ فَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْوَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْعُمُومُ يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ الْخُصُوصُ وَلَيْسَ الْعُمُومُ مِنْ قَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالتَّجْهِيلِ فَصَارَ قَصْدِيَّتُهُ وَتَبَعِيَّتُهُ سَوَاءً.
(وَلَوْ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ) سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُقْبَلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ، وَفِي قول آخَرَ يُقْبَلُ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ وَقَدْ شَهِدُوا.
قُلْنَا (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي (شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ (وَفِي قَبُولِ الْكِتَابِ سَعْيٌ) وَاحْتِيَاطٌ (فِي إثْبَاتِهِمَا) وَعُرِفَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ الْوَاوِ فِي قولهِ وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا إلَخْ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّك رُبَّمَا تَطَّلِعُ عَلَى فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ فِي الْكُتُبِ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ الْكِتَابِ فِيهَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا: فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ادَّعَيَا وَلَدًا وَقَالَا هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنَّا هُوَ فِي يَدِ فُلَانٍ اسْتَرَقَّهُ فِي بَلْدَةِ كَذَا وَطَلَبَا الْكِتَابَ لَا يَكْتُبُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ ادَّعَيَا النَّسَبَ وَلَمْ يَذْكُرَا الِاسْتِرْقَاقَ يَكْتُبُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَعْوَى النَّسَبِ مُجَرَّدًا فَكَانَ كَدَعْوَى الدِّينِ.
بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يُرِيدُ دَفْعَ الرِّقِّ فَهُوَ كَدَعْوَى أَنَّهُ عَبْدِيٌ.
فَرْعٌ:
هَلْ يَكْتُبُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ؟ فِي الْخُلَاصَةِ هُوَ كَالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ، وَالتَّفَاوُتُ هُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ.
وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي مَحَلِّ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَيَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَيُبَيِّنُ الْأَجَلَ لِيُطَالِبَهُ إذَا حَلَّ هُنَاكَ، وَلَوْ قَالَ اسْتَوْفَى غَرِيمِي دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْدَمَ الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَأَخَافُ أَنْ يَأْخُذَنِي بِهِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكْتُبُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ.
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: جَحَدَنِي الِاسْتِيفَاءُ أَوْ الْإِبْرَاءُ مَرَّةً يَكْتُبُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ الشَّفِيعَ الْغَائِبَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ هَلْ يَكْتُبُ؟ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَا امْرَأَةٌ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ وَأَشْهَدَتْ وَطَلَبَتْ الْكِتَابَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَلَوْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِآخَرَ وَأَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الطَّلَاقَ فَأَحْضَرَتْهُ وَقَالَتْ لِلْقَاضِي سَلْهُ حَتَّى إذَا أَنْكَرَ أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَهَذَا احْتِيَاطٌ.